بعد انقراض الدولة الرومانية الغربية واندثار معطياتها الحضارية ، كانت الكنائس هي الشكل الوحيد للوقف في أوربا ، حتى مطلع القرن الثالث عشر ، حيث ظهرت في وسط أوربا ( ألمانيا الآن ) بعض الأوقاف الخيرية ؟ ) . ولكن أول إشارة إلى الوقف في النظم القانونية الغربية جاءت في القانون الإنجليزي للأعمال الخيرية الصادر عام ۱۹۰۱ ، حيث وردت أول إشارة قانونية أوربية للوقف من خلال تعريف العمل الخيري بأنه أية أعمال يقوم بها شخص أو مجموعة أشخاص ، بقصد خدمة النفع العام أو المساعدة في ذلك . وقد منح هذا القانون بعض الامتيازات ، وبخاصة الضريبية لهذه الأعمال . ثم اعتبرت النظم الأوربية أن مثل هذه الامتيازات تشمل كل ما يخصص للجمعيات الخيرية والمستشفيات والكنائس والهيئات التعليمية وما شابه ذلك . ويلاحظ أن ذلك القانون - وما تلاه من امتيازات - قد صدر قبل أن يتبلور المفهوم المعاصر للشخصية المعنوية في القوانين الغربية ، الذي إنما تبلور بشكله الحديث في القرن التاسع عشر ( ۳ ) .
ثم
اتخذت الأوقاف شكل الشخصية المعنوية ، باسم مؤسسة Foundation
، واتضحت معالمها فصارت تُعرّف بأنها مؤسسة غير حكومية ، لا تقصد الربح ، وتهدف
إلى رعاية هدف أو مصلحة ذات نفع عام ، اجتماعي كان أم صحي أم علمي أم ديني وقد
توسعت المؤسسة في أمريكا الشمالية في اتجاهين ؛ أحدهما هو المؤسسة العامة Public Foundation ، والثاني هو المؤسسية
الخاصة Private Foundation.
فالأولى
يكون تمويلها من الجمهور ، حيث تستحث الجمهور على التبرع لها . ويوضع فيها شكل
جماعي الاختيار الإدارة يرتبط بجمهور مموليها . أما الثانية فيمكن تمويلها وإدارتها
من قبل شخص واحد أو أسرة أو عدد قليل جدا من الأشخاص . على أنه يمكن تصنيف الأوقاف
الموجودة اليوم في البلدان الغربية - وبخاصة الولايات المتحدة - من عدة وجهات نظر
. فمن حيث أهدافها هنالك الأوقاف ذات الهدف العام، بل العام جداً ، نحو خدمة
الإنسانية ورفاهها .
ومن
أمثلة هذه الأوقاف وقف كارنيجي الذي أسسه السيد أندرو كارينجي عام ۱۹۱۱ ، ووقف روكفلر
الذي تأسس عام ۱۹۱۳ . وهناك أيضاً الأوقاف المتخصصة بالتعليم أو الصحة أو البحث العلمي أو
مساعدة مرضى القلب أو مرضى الكليتين وغير ذلك . ومن حيث مؤسسو الوقف هناك أوقاف الشركات
وأوقاف الأفراد أو العوائل ، وهناك أيضاً أوقاف المجتمعات المحلية والأقليات
الدينية والعرقية وغير ذلك .
ومن أمثلتها الوقف الإسلامي لأمريكا الشمالية North American Islamic Trust الذي تأسس للمسلمين
وحدهم في العام ۱۹۷۱ واتخذ لنفسه مركزاً في مدينة بلينفيلد بولاية انديانا . وينبغي أن
نلاحظ أنه على الرغم من تبادر عبارة مؤسسة Foundation
كترجمة لمعنى الوقف ، فإن هذه العبارة قاصرة في حقيقتها عن أن تشمل جميع الأشكال
القانونية لفكرة الوقف المعروفة في الإسلام . أي فكرة إخراج أصول ثابتة ومنافع عن
التصرف الشخصي بأعيانها وتخصيصها لمصالح خيرية ، أو لإنتاج منافع عامة أو غلات
تستعمل للمصالح العامة.
والسبب
في ذلك هو وجود مفهومي المؤسسة التي لا تقصد الربح Non -
Profit Corporation والأمانة الوقفية Trust إلى جانب مفهوم المؤسسة Foundation فالمؤسسة التي لا تقصد
الربح يمكن أن تكون دينية ، أو ثقافية ، أو تعليمية كالجامعات أو علمية تتخصص
بالبحوث ، أو رياضية ، أو صحية أو غير ذلك .
ولا
يشترط في كل مؤسسة لا تقصد الربح أن تتخذ شكل Foundation
، في حين أن Foundations
جميعها ينبغي أن تتخذ واحداً من شكلين هما المؤسسة التي لا تقصد الربح Non - profit Corporation أو الأمانة الخيرية Charitable Trust.
أما
الأمانة الوقفية فهي نوع من الأمانات الخيرية العامة Charitable
Trusts أو الأمانات الذرية Family
Trusts التي تتضمن وضع أصول ثابتة لتستثمر والتوزع
عوائدها على الأغراض المقصودة أو على أهل الواقف وذريته . بالتالي فإن دراسة
الأوقاف في الغرب اليوم تتطلب منا أن نتوسع بشمول الدراسة لتأتي على التعرف على
الأصول الثابتة الوقفية التي تملكها المؤسسات التي لا تقصد الربح ، سواء أكانت مما
هو مخصص لإنتاج منافع لخدمة غرض المؤسسة نفسها.
ويشمل
ذلك الأصول الثابتة التي تملكها المؤسسات الخيرية Non -
profit Corporation نحو مباني و تجهيزات
المساجد والكنائس والجامعات والمستشفيات وغيرها من المنشآت التي تمتلكها هذه
المؤسسات التي لا تقصد الربح . كما ينبغي أن تشمل الدراسة أيضا الأصول الثابتة
المخصصة للاستثمار لتنتج إيرادات تصرف على أغراض المؤسسة التي لا تقصد الربح .
وإلى
جانب ذلك ، فإن كثيراً من الأوقاف تتخذ شكل الأمانة Trust
وأقربها للذهن الأمانة الإسلامية لأمريكا الشمالية North
American Islamic Trust التي هي في الواقع وقف
إسلامي . وهناك غيرها الكثير من الأمانات الخيرية والأمانات الأهلية . ولقد شاعت
الأمانات الأهلية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين شيوعاً كبيراً في الولايات
المتحدة كوسيلة للتخفيف من عبء الضرائب ، وبخاصة الضريبة على الركات ، وهي مما
ينطبق عليه تعريف فكرة الوقف التي نبحثها في هذا الكتاب .
فإذا
قيل مثلاً بأنه لا يمر عبر المؤسسات الوقفية Foundations
أكثر من تسعة بالمئة من التبرعات التي يقدمها القطاع الخاص في الولايات المتحدة )
، فإن ذلك لا يعني ضعفا في دور الأوقاف بالنسبة لتبرعات القطاع الخاص . وذلك لأن
معظم التبرعات الأخرى تمر عبر مؤسسات وقفية أخرى لا تقصد الربح هي من نوع Non - profit Corporations ، وهي تمتلك أوقافاً
كثيرة جداً ، بل هائلة .
فموسوعة أميريكانا نفسها مثلاً تذكر أن نصف
تبرعات القطاع الخاص تمر عبر المؤسسات الدينية ، وهي من المؤسسات التي لا تقصد
الربح . ولعل مما يوضح ذلك أن جميع المساجد والمراكز والمدارس الإسلامية في
الولايات المتحدة وكندا لا تتخذ اسم Foundation
وإنما هي كلها مؤسسات لا تقصد الربح Non - profit
Corporations ، رغم أنها كلها أوقاف حسب مدلول فكرة
الأوقاف نفسها . يضاف إلى ذلك أن الأمانات الوقفية Trusts
قد نمت نمواً كبيراً في الولايات المتحدة ، مما جعل نصيباً مهماً من التبرعات ،
وبخاصة التبرعات الوقفية في القطاع الخاص تمر من خلال هذه الأمانات أيضاً من ذلك
يتبين أن فكرة الوقف لا تنتظم في المجتمع الغربي ، وبخاصة الأمريكي ، في منظومة
قانونية واحدة ، بحيث يجدها الباحث في باب أو فصل أو قانون مستقل ، وإنما تتوزع
الأوقاف في ثلاثة أبواب هي:
- المؤسسات الوقفية Foundations
- المؤسسات التي لا تقصد الربح Non - profit Corporations
- الأمانات
الوقفية التي هي أنواع من الأمانات Trusts
،
مع
الأخذ بعين الاعتبار أن كلا من المؤسسات التي لا تقصد الربح والأمانات الوقفية
تشمل ضمن موجوداتها أصولا ثابتة ذات مضمون وقفي وأموالا متداولة ونقدية ذات مضمون
تبرعي خيري . كما إن إيراداتها تشمل في العادة العوائد الاستثمارية للأصول الثابتة
الوقفية التي تملكها إضافة إلى التبرعات التي يقدمها إليها جمهورها وأعضاؤها.
أما
استعمالاتها للأموال التي تحصل عليها فيمكن أن تكون للإنفاق على أهدافها الخيرية
المخصصة لها ، أو على زيادة أصولها الثابتة الوقفية التي تدر عليها العائدات ، أو
على مزيج من الاثنين معاً كما هو الغالب . يضاف إلى ذلك أن الأوقاف الخاصة أو
الذرية ، الدائمة منها والمؤقتة ، تدخل في باب الأمانات ، فهناك الأمانة الوقفية
للأحياء Living Trust
، ووحدة الأمانة Unit Trust
فضلاً عن الأمانة المجردة Trust
وهي جميعها تتضمن معنى الوقف بشكل أو بآخر .
المصدر:
كتاب الوقف الإسلامي: تطوره، إدارته، تنميته للدكتور منذر قحف